مع خيوط الفجر الأولى، انطلقت حافلتنا تشقُّ طريقها نحو إدلب، المدينة التي ظلت تنبض في ذاكرتي رغم الغياب. خمسة عشر عامًا مضت، لكنّ الشوق إليها ظلّ متقدًا كجمرة تحت رماد الزمن. كلما اقتربنا، كنت أشعر بدقات قلبي تتسارع، وكأنني أعود إلى وطنٍ ظلّ نائمًا في حنايا الروح.
وصلنا إلى ساحة إدلب، وكان أول ما استقبلنا تلك اللوحة الفنية الضخمة التي كُتب عليها “سوريا لكل السوريين“. للحظة، شعرت أن هذه العبارة ليست مجرد كلمات، بل وعدٌ يحتضن الجميع، رسالة أمل وسط كل ما مررنا به.
محمد الشيخ: دليلنا إلى قلب إدلب
لم يكد شوقي يهدأ حتى ظهر محمد الشيخ، صديقنا من فريق ملهم التطوعي، بابتسامته التي تحمل دفء أهل إدلب وكرمهم. كان كمن يحمل مفاتيح المدينة، مستعدًا ليرينا وجهها الحقيقي، ذاك الوجه المشرق بالأمل رغم كل التحديات.
أرمناز والمخيمات: حيث تروي العيون ألف حكاية
وجهتنا الأولى كانت أرمناز، حيث تقف المساكن التي أُنشئت لاحتضان المتضررين من الزلزال. هناك، لم تكن البيوت مجرد جدران، بل كانت شهادات حية على صمود الإنسان. عيون الأطفال التي لمعت بالدهشة حين رأونا، الضحكات التي اختلست طريقها بين أنقاض الذكريات، كلها كانت تقول شيئًا واحدًا: الحياة مستمرة.
انتقلنا بعدها إلى المخيمات، حيث البساطة والكرامة تسيران جنبًا إلى جنب. التقينا بأناسٍ لا يملكون الكثير، لكن أرواحهم كانت أغنى من أي شيء آخر. رأيت كيف يمكن للابتسامة أن تكون مقاومة، وكيف أن الكرم لا يرتبط بالوفرة بل بالقلب الذي يعطي بلا حساب.
قلعة حارم: الحكايات المنقوشة على الصخر
على قمة الجبل، وقفت قلعة حارم تروي بصمتها قصصًا من قرون مضت. رغم الدمار، كان في حجارتها نبضٌ لا يموت، كأنها ترفض أن تكون مجرد أثر. تطلُّ من علٍ على المدينة، شاهدة على التاريخ، شامخة كأهلها، لا تنحني إلا للرياح التي تنقل أسرارها من جيلٍ إلى آخر.
بابسقا: المدينة المنسية التي تأبى النسيان
من القلعة، أكملنا رحلتنا إلى بابسقا، المدينة المنسية التي ما زالت تحتفظ بجمالها الخفي. الطرقات القديمة، الأزقة التي تحمل رائحة الزمن، والآثار التي تشي بماضٍ مجيد، جعلتني أدرك أن النسيان لا يطال الأماكن التي تحفر وجودها في القلوب.
مول الغيدق: إدلب تبتسم رغم كل شيء
لم يكن بالإمكان مغادرة إدلب دون أن نرى جانبها العصري، فتوجهنا إلى مول الغيدق. في داخله، كان المشهد مختلفًا تمامًا، ازدحام الحياة، ضحكات الأطفال، وحركة الأسواق التي تعلن أن إدلب ما زالت تنبض بالحياة، تتحدى كل شيء لتبقى.
الوليمة الإدلبيّة: مشاوي، مناسف، وبيتزا بنكهة الوطن
بعد يوم حافل، اجتمعنا في أحد المطاعم، حيث امتزجت رائحة المشاوي مع نكهة الذكريات. تناوبت أيدينا على تقاسم المناسف والبيتزا، كأنها طقوس احتفالٍ بعودة الروح إلى المكان. كانت الأحاديث تتشابك كما تشابكت قلوبنا مع إدلب، وكان المشهد أشبه بعائلة عادت أخيرًا إلى بيتها.
زيارة أماني العلي: لمسة الختام الرائعة
قبل أن نغادر، كان لا بد من لقاء الصديقة الرائعة أماني العلي.
هذه الفنانة الكاريكاتيرية التي أصبحت رمزًا للثورة السورية من خلال رسوماتها التي تعبر عن آمال وآلام الشعب السوري. كانت أماني تستقبلنا في منزلها المتواضع، حيث كانت تعمل على لوحة جديدة تعبر عن معاناة الأطفال في الحرب.
كانت أماني تروي لنا قصصًا عن بداياتها في عالم الكاريكاتير، وعن كيف كانت رسوماتها وسيلة للتعبير عن صوت الشعب الذي كان يطالب بالحرية والكرامة. كانت رسوماتها تختزل في خطوط بسيطة معاناة شعب بأكمله، وكانت تقدم من خلالها رسائل قوية تصل إلى قلوب الناس قبل عقولهم.
كانت أماني تتحدث عن آمالها في مستقبل أفضل لسوريا، وعن دور الفن في إحياء الأمل وترميم الجروح. كانت تؤمن بأن الفن هو وسيلة للمقاومة، وأن الكاريكاتير هو سلاح يمكن أن يغير الواقع من خلال إبراز الحقائق بطريقة بسيطة ومؤثرة
كان لقاءً مليئًا بالود، يشبه إدلب في دفئها وصدقها. عندما غادرنا منزلها، شعرت أن الرحلة لم تكن مجرد زيارة، بل كانت ولادةً جديدة لعلاقة لم تنقطع رغم الزمن.
العودة إلى دمشق: إدلب التي لم نغادرها
بعد حلول الظلام بدأت رحلة العودة إلى دمشق، لكن شيئًا فيّ رفض المغادرة. إدلب لم تكن مجرد محطة، بل كانت قصيدة كتبتها الأيام على صفحات الذاكرة، وستظل هناك، مشرقة، كما رأيتها في ذلك اليوم.
إدلب… يا نغمة الفجر الجميل
إدلبُ يا نغمةَ الفجرِ حينَ الغيومُ تثاقلتْ في السماءْ
يا بسمةً ضحكتْ رغمَ جرحٍ يعانقُ قلبَ المساءْ
في دروبِكِ يمشي العطاءُ بخطوٍ وئيدٍ يُنيرُ الرجاءْ
فريقٌ تلألأَ مثلَ النجومِ ودروبُنا في ضياهُ ارتقاءْمحمدُ يا دربَ هذا المدى، بكَ الخيرُ يزهو كنبضِ المطرْ
وكلُّ الأيادي التي لامستْ جراحَ الصغارِ، تداوي القدرْ
وفي كلِّ بيتٍ هنا قصةٌ يخطُّ بها الدهرُ سفرَ العبرْأماني العلي، سلامٌ إليكِ، كوردِ الربيعِ يزينُ الدروبْ
تُضيئينَ إدلبَ حبًّا ونورًا، وتمسحينَ عن روحِها كلَّ كَربْوإدلبُ، يا زهرةَ النرجس، ستبقينَ رغمَ المحنْ
وتحملُ في طهرِها ألفَ قلبٍ، وألفَ حكايةِ عشقٍ وفنْ
سنبقى نعودُ إليكِ كطيرٍ يعودُ لأعشاشِه في الزمنْ
![]()
![]()
![]()
هكذا كانت إدلب في عيوننا، مدينةٌ لا تُقهر، وشعبٌ لا يُهزم، وقلبٌ مفتوحٌ لكل محتاج. رحلةٌ لم تكن مجرد يومٍ عابر، بل قصةً ستبقى محفورةً في وجداننا، نرويها كلما ضاق بنا العالم، لنتذكر أن هناك مدنًا تُشبه الأمل، تمامًا كما تُشبه إدلب
إعداد التقرير
المهندسة نجاة العلي
الكوتش بلال المصري