مع خيوط الشمس الأولى، التي لم تكن قد نبشت آخر أحلام الليل تمامًا، انطلقنا من دمشق. كانت نسمات الصباح الباردة تعزف ألحانًا من شغف الاستكشاف في نفوسنا. كانت وجهتنا الأولى بلدة “برشين”، تلك القرية التي تحتضن التنور كما تحتضن الأم رضيعها. هناك، في دكان متواضع، انتظرنا فطائر التنور. لم تكن مجرد فطائر نتناولها، بل كانت لقمة تصلنا بجذور هذه الأرض الطيبة.
**مصياف: الحصن والجمال**
ببطون دافئة وقلوب متلهفة، واصلنا طريقنا نحو **مصياف**. المدينة التي تستقبلك بجبالها الشامخة وبساتينها الخضراء التي تبدو وكأنها سجادة مطرزة بالزيتون والكرمة. إنها ليست مجرد مدينة، بل هي لوحة طبيعية رسمتها أنامل الخالق بإتقان.




كانت محطتنا الأولى والأبرز هي **قلعة مصياف**، شاهدة على تعاقب الحضارات منذ أكثر من ألفي عام في قلب مدينة مصياف بمحافظة حماة، تتربع قلعة مصياف على هضبة صخرية منذ عام 44 قبل الميلاد، مشكّلةً واحداً من أبرز المعالم التاريخية في سوريا، شُيّدت القلعة في العهد الروماني، وتعاقبت عليها حضارات عديدة، من البيزنطيين وصولاً إلى المماليك.
من أبرز ميزات القلعة هو تصميمها الدفاعي المذهل. جدرانها السميكة، وأبراجها المرتفعة التي تتيح رؤية بانورامية لكل ما حولها، والممرات السرية، والدهاليز المعقدة، كلها تصور لك عبقرية العمارة العسكرية في ذلك الزمن , إضافة إلى لقى أثرية تؤكد أن طريق الحرير كان يمر من هذه المنطقة، ما يعكس أهميتها الاستراتيجية والتجارية على مر العصور. الصعود إلى قمتها متعب نوعاً ما و لكن المكافأة لا توصف: مشهدٌ بانورامي لمدينة مصياف بأكملها، والبساتين، والجبال، تشعر وأنت هناك بأنك تسمع همسات القادة والجنود، أصوات المؤامرات والاستراتيجيات، حكايات الصمود والوجود. القلعة ليست مبنىً قديمًا، بل هي كتاب مفتوح، كل حجر فيه فصل من فصول تاريخ هذه الأرض الأبية.

**استراحة في أحضان الجبل: فندق و مطعم سكاي نير**
بعد هذا الغوص في التاريخ، اتجهنا إلى **فندق و مطعم سكاي نير** لاستلام الغرف. الفندق، كما يوحي اسمه، يحاول أن يلامس السماء. غرفنا كانت نوافذها إطارات للوحات جبلية خلابة. أخذنا قسطًا من الراحة، نستنشق هواء الجبل النقي، ونستعد لمغامرة ثقافية جديدة تنتظرنا مع انحدار الشمس نحو الغروب.


**مقامات إخوان الصفا: لقاء مع الحكمة**
في الساعة الخامسة عصرًا، اتجهت أنظارنا نحو قمم الجبال، حيث يقبع **مقام إخوان الصفا**. الطريق متعرج وصعب، لكنه يستحق العناء. في القمة، حيث يلامس السحاب، ينتظرنا عالمٌ آخر، عالم من الروحانية والفكر.


استقبلنا هناك القائمون على المقام بأنسٍ وحفاوة. كانوا كالأسرة التي تنتظر عودة الغائبين. في “قصر إخوان الصفا” المتواضع بناؤه، العظيم معناه، جلسنا وكأننا طلاب علم في حلقات القدماء.
وبدؤوا يشرحون لنا قصة ومبادئ **إخوان الصفا**، تلك الجماعة الفكرية الفلسفية السرية التي ظهرت في البصرة في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) واشتهرت بـ “رسائل إخوان الصفا”. مبادئهم كانت مزيجًا رائعًا بين الفلسفة والدين، سعيًا لإصلاح النفس والمجتمع.

تعمقوا في الشرح لنا:
* **وحدة الوجود والحكمة:** كانوا يؤمنون بأن المعرفة والحكمة هي غاية الوجود الإنساني، وأن طريق المعرفة هو العقل والتجربة والوحي معًا. لم يرفضوا الفلسفة اليونانية، بل حاولوا التوفيق بينها وبين تعاليم الإسلام.
* **التسامح الديني:** كانت رسائلهم تدعو إلى التسامح وتقبل الآخر، مؤمنين أن الأديان كلها تصب في نهر الحقيقة الواحدة. هذا المبدأ كان ثوريًا ومتقدمًا جدًا لعصره.
* **الترقي الروحي:** كان الإنسان في فلسفتهم يسير في طريق ترقٍّي، يبدأ من العالم المادي وينتهي إلى الاتحاد مع العالم الروحاني، عبر تطهير النفس والعقل.
* **النظرة الشمولية:** نظروا إلى الكون على أنه ككلٍّ متكامل، والإنسان جزء من هذا الكل، عليه واجبات تجاه نفسه ومجتمعه وبيئته.
الجلسة لم تكن محاضرة تاريخية جافة، بل كانت حوارًا روحانيًا عميقًا. غادرنا المقام وعقولنا وقلوبنا ممتلئة بأسئلة كبيرة وجمال أكبر، وحاملة معها رسالة محبة وتسامح من قرون مضت.
**سهرة تحت النجوم: أغاني تلامس القلب**
عدنا إلى الفندق عند المغيب، حيث تلطفت الأجواء أكثر. بعد أن تجهزنا وتناولنا عشاءً لذيذًا من أطباق المنطقة، بدأت **السهرة**. انضم إلينا شباب من المنطقة المطرب الدكتور عمار عبد الكريم وعازف العود نهال قهوجي وضابط الإيقاع كان الشاب الجميل علاء، يحملون معهم آلاتهم الموسيقية وحناجرَ جبلية صافية، كأنها منحوتة من صخور الجبال وصفاء الوديان. بدؤوا الغناء، فأطربوا الآذان، ورقصت الأجساد على أنغام أغانيهم العذبة. كان المرح عفويًا، نابعًا من القلب. الضحكات تتعالى. في تلك اللحظة، لم يكن هناك غريب أو ضيف، كان هناك “إخوة صفا” جدد، يجمعهم الجمال والموسيقى والضحك تحت سماء مصياف المرصعة بالنجوم.

**صباح جديد: قهوة وتخطيط ووداع مؤقت**
مع إشراق فجر جديد، اجتمعنا حول رائحة القهوة العربية الأصيلة، التي تفوح بالأصالة والكرم. قام “الكوتش بلال” برسم خطة اليوم، وهي الاستمتاع بجمال **وادي العيون**. بعدها، تناولنا الفطور الشهي، وخاصة “المعاجيق المشهورة بمنطقة مصياف ” الطيبة ، ثم سلمنا الغرف بحنين إلى المكان الذي احتضننا ليلة من أجمل الليالي.

**وادي العيون: سحر الطبيعة ومبعث الحياة**
انطلقنا بالباص نحو **وادي العيون**. يا له من اسم على مسمى! الوادي هو قطعة من الجنة سقطت على الأرض. خضرة ناضرة، مياه متدفقة بين الصخور، وهواء نقي يعيد الشباب إلى النفوس. وصلنا إلى **مطعم ومنتزه رأس النبع**، وهو مكان سحري بكل ما للكلمة من معنى. المطعم محتضنٌ بصخرة ضخمة في قلب الجبل، وتخرج من تحتها **عين ماء عذبة** متدفقة بلا توقف، لتشكل جداول وأنهارًا صغيرة تروي كل شيء حولها: الأشجار، الزهور، وأرواح الزائرين العطشى للجمال. شربنا من مائها البارد، فكان أطيب شرابٍ ذقناه على الإطلاق.


**مسير درب عين الرمل: ودادية القلوب وأقدام على الأرض**
هنا، بدأت مغامرة المشي. انضم إلينا دليلان من أبناء البلد، هما **الفنان والمخرج المتميز مكسيم منصور**، و**المهندس أبو خليل**. وجودهما لم يكن مجرد دليلية، بل كان إضافة ثقافية وإنسانية كبيرة. مكسيم، بحسه الفني، كان يروي لنا حكايات الوادي وكأنه يقدم فيلمًا سينمائيًا عن حبيبته. وأبو خليل، بمعرفته الهندسية والطبيعية، كان يشرح لنا تكوينات الصخور ومصادر المياه.
انطلقنا في **مسير درب عين الرمل**، حيث الطبيعة الساحرة التي تخطف الأنفاس. كل منعطف يكشف عن منظرٍ أكثر إبهارًا من سابقه: شلالات صغيرة، برك ماء صافية كالبلور، غابات خضراء، وطيور تغرد ترحيبًا بنا. أثناء السير، كانت الحكايات تتوالى من أهل المنطقة عن تاريخ الوادي، عن “أم ديب”، عن الحروب والأفراح التي شهدتها هذه الجبال. كانت الأقدام تسير، والقلوب تترابط أكثر. الكل يتساعد، يشد بعضهم بعضًا على المرتفعات، يلتقطون الصور لبعضهم، ويتبادلون الضحكات والماء والطعام. كانت **الألفة والمحبة** تُحاك خيوطها بخيطين متوازيين: خيط الجمال الطبيعي الخارجي، وخيط الجمال الإنساني الداخلي.



**وليمة الغداء: أفراح بشرية وامتنان**
بعد انتهاء المسير، عدنا إلى مطعم “رأس النبع”. هناك، بدأت حفلة أخرى. لم تكن حفلة بالمعنى الحرفي، بل كانت احتفاءً بالحياة. بدأت الأغاني الشعبية تعلو من جديد، وهذه المرة كنا نحن من يغني ويدبك مع أهل المكان. ثم قدم لنا طعامٌ شهيٌ من الأطباق المحلية، مع خدمة ممتازة كأننا ملوك. جلسنا نأكل، نغني، نتحدث، ونشكر الله على نعمه التي لا تحصى. نظرت إلى الوجوه من حولي، فرأيت البسمة لا تفارقها، رأيت التعب الجسدي قد غُطّي بغطاء من الرضا النفسي والروحي.

**العودة إلى الشام: حلويات ووعود**
مع اقتراب وقت المغيب، حان وقت الرحيل. حزمنا أمتعتنا وقلوبنا مليئة بذكريات لن تمحى. العودة إلى دمشق كانت مختلفة، الجو داخل الباص كان كهواء العائلة. تواصل الضحك والغناء أحيانًا. الجميع يتمنى اللقاء الثاني في أسرع ما يمكن. لم نكن مجموعة سافرت معًا، بل أصبحنا عائلة مختارة، جمعتنا الطبيعة والتاريخ والإنسانية.
كانت رحلة **مصياف ووادي العيون** أكثر من مجرد رحلة سياحية. كانت درسًا في التاريخ، حوارًا مع الفكر، استحمامًا في الطبيعة، ووليمة للألفة الإنسانية. كانت تذكيرًا بأن أجمل المناظر هي تلك التي تنظر فيها إلى عيون أصدقاء جدد، وأطيب الأطعمة هي تلك التي تتناولها بيد المحبة، وأعلى القمم هي تلك التي تتسلقها بقلبٍ شجاع وروحٍ متآلفة.
نعدكم بلقاء قريب في رحلة جديدة، لأن القلب لا يسعه إلا أن يعود إلى حيث يُغذى بالجمال والأخوة.
إعداد
المهندسة نجاة العلي
الكوتش بلال المصري




