في صبيحة يوم الإثنين تاريخ (09-06-2025)، آخر أيام عيد الأضحى المبارك، انطلقنا من دمشق نلبي نداء الجبال والوديان، نبحث عن نسمة عليلة تحمل عبق التاريخ وهدوء الإيمان. وجهتنا: وادي النصارى في ريف حمص الغربي، جوهرة خضراء تنبض بالحياة بين أحضان الطبيعة وأسرار المعالم المقدسة.
سيدة الشرق في الحواش: عربون شكر
في بلدة الحواش، على تلة ترتفع نحو 400 متر عن سطح البحر، أقيم صرح “سيدة الشرق” كعربون شكر من خليل ميشيل نكد، الذي نذر أن يبني تمثالًا للسيدة العذراء مكتملاً، بعد تجاوز محنة صحية حاقت به كادت تقوده إلى الموت. فتطورت فكرته من مقام بسيط إلى صرح كبير.
يتوسط الصرح برج من 11 طابقًا، بطول 52 مترًا، حيث يمكن للزائر الصعود إلى قمته عبر سلم أو مصعد كهربائي، ليلتقط أنفاسه ويرى مشهدًا بانوراميًا لخضرة الحواش والجبال المحيطة. وفي الأعلى، يطل تمثال العذراء بطول 8 أمتار، بدعوة للحظات تأمل في عظمة الطبيعة، ولقاء روحاني مع رمز الإيمان.
سيدة الوادي وجبل السايح: أساس الروح والتاج الأخضر
واصلنا طريقنا صعودًا الى قمة جبل السايح، حيث تتربع سيدة الوادي، تمثال السيدة العذراء الذي يبلغ ارتفاعه 30 مترًا. فوق قمة جبل ترتفع 980 مترًا عن سطح البحر
يطل التمثال على كافة قرى الوادي. نفذته شركة كورية بتصميم إيطالي، في مدة قياسية لم تتجاوز 70 يومًا، ليغدو من أكبر تماثيل السيدة العذراء في الشرق الأوسط.
تحت التمثال، بُنيت قاعدة هندسية رائعة تضم متحفًا وقاعة استقبال.
تم تدشين الصرح في 16 أغسطس 2009، ضمن رؤية تكاملية لربطه مع دير مار جرجس الحميراء وقلعة الحصن، لتكوين “مثلث روحاني” يعزز السياحة الدينية في الوادي.
دير مار جرجس الحميراء: أيقونة الإيمان وكنز التاريخ في قلب وادي النصارى
في قلب وادي النصارى، وتحديدًا في قرية المشتاية الواقعة غرب مدينة حمص بحوالي 60 كيلومترًا، يتربع دير مار جرجس الحميراء كأحد أعرق المعالم الروحية والتاريخية في سوريا. لا تقتصر أهميته على طائفة أو مذهب، بل هو مكان مقدّس لكل المؤمنين، يشهد بذلك فيض النذور والأضاحي التي تقدم فيه طلبًا للشفاء والبركة، ما جعله قبلة دينية وسياحية على مدار العام.
يقع الدير في منطقة جبلية كثيرة الأمطار، ويجاوره من الجنوب سفح جبل الحصن، الذي يحتضن في طرفه الشرقي قلعة الحصن الشهيرة، فيما ينساب إلى جواره نبع الفوار الذي يشتهر بفيضانه المفاجئ بين الحين والآخر.
من الكهف إلى الصرح: تاريخ من القداسة
كان الدير في بداياته كهفًا بسيطًا تحيط به أكواخ الرهبان، ومدخله حجرٌ أسود لا يتجاوز ارتفاعه 93×64 سم. ومن نافذة حجرية صغيرة، كان الرهبان يوزعون الطعام على عابري السبيل، ويعلّموهم مبادئ الدين والأخلاق.
ومع القرن الثاني عشر، بدأ بناء الكنيسة القديمة فوق الكهوف، التي شكلت لاحقًا أساس الدير. ثم تطور البناء في القرن السابع عشر، حين شُيّدت الكنيسة الجديدة التي اكتمل إنشاؤها عام 1857م، وتبعه بناء الطابق العلوي المخصص لاستقبال الزوار بـ 55 غرفة، اكتمل مع مطلع القرن العشرين.
كنز فني وروحي داخل الجدران
تتصل الكنيسة القديمة بساحة كبيرة تحوي قاعة مقنطرة بمساحة 7×9 مترًا، خُصصت لاستراحة الزوار، إضافة إلى مستودعات للزيوت والخمور والنذور. وتحتفظ الكنيسة القديمة بأيقونسطاس خشبي مذهل، جُدد بخشب الأبنوس بعد احتراقه، ويزدان بنقوش رائعة تمثل مشاهد دينية مثل بشارة العذراء، القديس جاورجيوس، القديس ديمتريوس، والملائكة.
أما الكنيسة الجديدة، فتحفة معمارية بامتياز، تمتاز بطراز يجمع بين العربي، البيزنطي، والقوطي، وأعمدتها تحاكي دقة الفن القوطي. لعل أبرز ما يلفت النظر فيها هو الأيقونسطاس المنقوش يدويًا، والذي استمر العمل عليه من عام 1865 حتى 1899م.
متحف الدير: ذاكرة مصوّرة من القرون
في بداية عام 2006، تم تخصيص غرفة بالقرب من الكنيسة الجديدة لتحوي متحفًا صغيرًا، لكنه غني بالمخطوطات والأيقونات النادرة. يضم المتحف:
- أيقونات بيزنطية وكريتية من القرنين 17 و18،
- حجرًا أثريًا يحمل كتابات عربية تعود للقرن الثامن الميلادي،
- خوابٍ فخارية من القرن 17 كانت تستعمل لحفظ الزيوت والخمور،
- أيقونة القديس جاورجيوس، وأخرى للعذراء مريم تحيط بها 24 صورة ترمز لحياتها، إلى جانب مشاهد الآلام والدفن للمسيح.
إن دير مار جرجس ليس فقط موضع عبادة، بل هو سِفر مفتوح من القداسة والتاريخ والفن، وكل زاوية فيه تحكي قصة ممتدة من الكهوف الأولى حتى تحف المتحف الأنيقة، ليظل شاهدًا حيًا على عمق الروح السورية وتسامحها.
عرزال الضيعة.. وموعد مع الطبيعة والسكينة
في منتصف النهار، استرحنا في عرزال الضيعة ، حيث تناولنا وجبة الغداء في أجواء هادئة وتحت ظل الأشجار. لكن رحلتنا لم تنتهِ هنا، فالمغامرة كانت في انتظارنا على بعد كيلومترين مشيًا على الأقدام نحو نبع خليفة وسد بحزينا.
المسير في هذه الطبيعة البكر، بين تلال خضراء وأنهار صغيرة، كان كفيلاً بمحو تعب الطريق. وعند وصولنا إلى النبع، كان المشهد أشبه بلوحة: بحيرة ساكنة، مياه رقراقة، وغروب ينعكس على صفحة الماء بهدوء شاعري.
فندق بيبرس.. مبيت على مرمى حجر من القلعة
مع غروب الشمس، صعدنا بالباص عبر الجبال إلى فندق بيبرس، الذي يقع بمواجهة مباشرة لقلعة الحصن. وزّعنا أنفسنا على الغرف، اجتمعنا في تراس الفندق نتأمل الأفق والوادي وهيبة قلعة الحصن في وسط المشهد ونكمل السهرة برفقة الاصدقاء.
قلعة الحصن.. أسطورة التاريخ الحيّ ودرّة القرون الوسطى
في صباح اليوم التالي، وبعد فطور غني ودفء القهوة، انطلقنا برفقة دليل سياحي نحو تاج الجبل وسيدة القلاع… قلعة الحصن، التي تُعد من أعظم وأشهر قلاع العصور الوسطى، ليس في سوريا فحسب، بل على مستوى العالم.
تقع القلعة في موقع استراتيجي مذهل، بين مدينتي حمص وطرطوس، على تلة ترتفع 650 مترًا عن سطح البحر، وتتوسط المسافة بين الساحل السوري ووسط البلاد، ما جعلها مفتاحًا حربيًا هامًا ومثارًا للصراعات في عصور متتالية.
رغم تعاقب الدول عليها، لا تزال القلعة شامخة منذ القرون الوسطى، حتى تم إدراجها عام 2006 على لائحة التراث العالمي لليونسكو.
تحمل القلعة عدة أسماء، أبرزها: قلعة الحصن، حصن الأكراد، قلعة المعقل، الصفح، الكرك. أما تسميتها بـ”حصن الأكراد” فتعود إلى القرن الحادي عشر، حين استقدم الإدريسون مجموعات من الأكراد لحمايتها وتأمين خطوط التجارة، ولا تزال بعض العائلات الكردية تقطن قربها حتى اليوم.
حصون داخل الحصون!
القلعة أشبه بمدينة محصنة داخل مدينة أخرى. تتكون من حصنين اثنين: داخلي وخارجي، يفصل بينهما خندق مائي محفور في الصخر يبلغ طوله 70 مترًا.
- الحصن الداخلي هو قلعة قائمة بحد ذاتها، ذات طابقين، تضم قاعة الفرسان القوطية، الكنيسة التي حُوّلت لاحقًا لمسجد، المهاجع، المعاصر، قاعة الاجتماعات، والمطعم، إضافة إلى بوابة رئيسية تتصل بدهليز طويل يؤدي نحو البوابة الخارجية بمنعطف دفاعي مائل.
- أما الحصن الخارجي، فيتكون من 13 برجًا دفاعيًا متنوعة الأشكال (دائرية، مربعة، مستطيلة)، تحيط به خنادق، ويضم قاعات، إسطبلات، غرف جلوس ومستودعات.
وتتوزع على أسوارها فتحات لرمي السهام والمقاذيف، شرفات مزينة، وزخارف رائعة تدمج بين القوة والفن المعماري. وعلى أحد جدرانها القديمة، لا تزال تُقرأ حكمة نقشت باللغة اللاتينية:
“إذا مُنحت النعمة، ومُنحت الحكمة، وفوقها الجمال… فلا تدع التعجرف يقترن بها، لأنه يذهب بها جميعاً.”
وداعًا وادي النصارى: إلى لقاء قريب
عدنا إلى الفندق لتناول الغداء والاستراحة قليلًا، ثم بدأنا بتوضيب أغراضنا استعدادًا للعودة إلى دمشق. لكن القلب بقي هناك، في أزقة الدير، على شرفة الجبل، وفي دهاليز القلعة.
كانت هذه الرحلة أكثر من مجرد نزهة؛ كانت غوصًا في أعماق التاريخ، وارتشافًا لصفاء الطبيعة، وتجددًا للروح وسط أماكن تحمل عبق القداسة وأصالة الحكاية. لكل من يبحث عن رحلة متكاملة، بين الثقافة والمغامرة، بين الهدوء والتاريخ، فإن وادي النصارى هو العنوان.
إعداد
المهندسة نجاة العلي
الكوتش بلال المصري