عندما تلفحك نسمات دمشق العليلة، وتستعد قدماك لمسير يخترق عبق التاريخ والطبيعة، ستجد أن لا وجهة أجمل من حلبون. هذه القرية الجبلية الساحرة، المختبئة في أحضان جبال القلمون، التي لم تهادن الزمن، فبقيت شامخة كقصيدة عشق على جبين الشام.
الطريق إلى حلبون: حين يلتقي الجمال بالدهشة
تنطلق رحلتنا من دمشق، متجهين شمالًا لمسافة تقارب 27 كيلومترًا فقط، لكنك تشعر وكأنك تعبر قارات. بين الطرقات الملتوية والوديان الغنّاء، ترتفع الروح كلما ارتفعت الأرض، إلى أن تبلغ 1450 مترًا فوق سطح البحر. الهواء هنا مزيج ساحر من عبير الزهر ونكهة البرودة العطرة، أشبه بنسمة رسل قديمين يحملون بشارات الفرح.
يمتد سهل حلبون كيد حنونة تفتح صدرها للسماء، يحدها شمالًا رنكوس، وشرقًا تلفيتا وصيدنايا، وجنوبًا منين والدريج، وغربًا إفرة وهريرة. ومن كل صوب، تحيط بها الجبال كحراس قديمين يحكون قصص البطولات، والخمر، والأساطير.
حلبون عبر الزمن: قرية حفرت اسمها على جدران التاريخ
تاريخ حلبون لا يُروى بسنين فقط، بل يُحفر في أعماق الذاكرة البشرية. فقد ذكرت منذ آلاف السنين في أقدم الكتب السماوية والأسفار التاريخية. أشار إليها الإغريقي سترابون باسم شاليبون، وذكرها بطليموس في خرائطه الشهيرة، بينما أضاء سفر التكوين التوراتي على بطولات النبي إبراهيم الذي تبع الملوك الخمسة حتى “حوبة”، والتي أجمع المؤرخون أنها حلبون.
في مخطوطات البحر الميت، تُذكر حلبون كملاذ، كحصن، وكوطن، حيث كتب:
وفروا جميعًا من أمامه حتى وصلوا حلبون التي تقع إلى يسار دمشق
لكن شهرة حلبون لم تقف عند حدود الجغرافيا، بل تخطتها إلى أسواق الحضارات، فهي سيدة الخمر الملكي. خمرها الشهير كان يُنقل إلى صور وفارس، ويُخصص للملوك والنبلاء دون غيرهم. وكان يعتبر من المحرمات على العامة.
وقد بلغ ازدهار حلبون ذروته في عهد أغريباس الثاني، الملك اليهودي الروماني، حيث عُثر على نقوش باسمه تذكر حلبون مقرًا ومصدرًا للخمر
بل يقال إن ماركوس أوريليوس، إمبراطور روما، وقع في غرامها لدرجة جعلها مقر إقامته ومرقده، بعيدًا عن صخب روما ومجدها. هذا العشق الخالد سُطر في التاريخ بأحرف من ضوء.
طبيعة حلبون: لوحة من خيال فنان سماوي
عند دخولك إلى حلبون، تدرك فورًا أن الطبيعة هنا ليست مجرد خلفية جامدة، بل بطلة تتحدث معك بكل تفصيلة. الوادي الكبير الممتد سبعة كيلومترات من نبع عين الصاحب حتى نبع الفاخوخ يرسم خطًا أخضرًا كالوشم فوق صدر الجبال.
في الصيف، تتلألأ الأشجار كعروس مزدانة، ولا تتجاوز درجات الحرارة 30 درجة مئوية، بينما في الشتاء تهطل الثلوج بغزارة حتى تغطي الجبال، وتتراكم إلى خمسة أمتار أحيانًا، فتغدو القرية بلدة من نور أبيض، صامتة وجليلة.
تنتشر في حلبون أكثر من أربعين نبعًا، أبرزها:
عين الصاحب: أسطورة الماء والخضرة.
نبع الفاخوخ: ذو الشهرة الشفائية.
عين الحمة: تفيض بشفاء أمراض الجلد والمفاصل.
عين بيسان، وعين الهدمة، وعين بلارة… عيون تروي الأرض والروح معًا.
الزراعة: ذهب أخضر تحت شمس حلبون
حلبون ليست فقط وجهة للمصطافين، بل سلة خيرات تفيض بالخير:
الجوز البلدي: الذي تحتل به حلبون الصدارة في سوريا، بمذاقه المميز وريّه بمياه الينابيع.
التفاح البعلي: ذهبي اللون، لذيذ الطعم.
التين الفاخر، الكرز المتوهج، العنب الحلو، الزيتون المبارك، والمشمش.
هذه الأشجار ليست مجرد نباتات، بل أعمدة هوية، وشواهد على حياة القرية القديمة.
قصص البطولة والمقاومة
لم تكن حلبون يومًا قرية ساكنة فقط، بل صانعة للبطولات. خلال الاحتلال الفرنسي، استبسلت حلبون وأهلها في المقاومة. ويروي التاريخ قصة “أبو العز”، البطل الذي أسقط طائرة فرنسية ببندقيته البسيطة، في مشهد يستحق أن يُنقش فوق بوابة القرية.
كنوز أثرية مغمورة تنتظر الاكتشاف
تحت صخور حلبون وأوديتها، تختبئ شواهد حضارات بأكملها:
المغاور والكهوف المنحوتة في الجبال.
القبور الرومانية القديمة.
مبانٍ أثرية شاهدة على الأزمنة المتعاقبة.
كتب الرحالة الإنكليزي الشهير بورتر، بعد زيارته لحلبون في منتصف القرن التاسع عشر، يقول:
إن الكشف عن آثار حلبون قد يغير شيئًا في فهمنا لتاريخ
وقد أشار إلى أن التين الذي تذوقه هنا لم يذق ألذ منه طيلة حياته.
من حلبون إلى قلوب الناس: حي الحلبوني بدمشق
حتى دمشق، التي لا تسمي أحياءها على أسماء مدن أو دول، منحت حلبون تكريمًا خاصًا بإطلاق اسمها على حي كامل: حي الحلبوني. حيث استقر حسن باشا الحلبوني، وبنى قصره، ووهب أرض محطة الحجاز، ليظل اسم حلبون مزروعًا في قلب العاصمة.
الخاتمة: حلبون… حين تنطق الأرض بالشعر
لا يمكن للمرء أن يودع حلبون بسهولة، فهي، كما وصفها الشاعر رفعت الشيخ،
متغلغلة في القلب والوجدان… تأسر محبها حتى أنك لا تستطيع الفكاك من حبائل حبها
إعداد المهندسة نجاة العلي
الكوتش بلال المصري