في رحلة مميزة، قمنا بزيارة مدينة بصرى الشام، إحدى أعرق المدن التاريخية في سوريا، والتي تعتبر كنزًا أثريًا يحكي قصص الحضارات المتعاقبة التي مرت عليها. بصرى، الواقعة في محافظة درعا، كانت ذات يوم عاصمة لإقليم العرب الروماني، وتشتهر بمعالمها الأثرية الفريدة، وأبرزها المدرج الروماني الذي يعد من أروع المدرجات المحفوظة في العالم.
عند وصولنا إلى بصرى، استقبلنا منظر المدينة القديمة الذي يعيد الزائر إلى عصور غابرة. كانت الشمس تشرق على الحجارة السوداء التي تشتهر بها المدينة، مما أعطى المكان طابعًا ساحرًا. و كانت أغنى استكشافاتنا
المدرج الروماني: تحفة معمارية خالدة
المدرج الروماني في بصرى هو أحد أهم المعالم الأثرية في المدينة، وقد بُني في القرن الثاني الميلادي. يتميز المدرج بتصميمه الدائري الفريد، وسعته التي تصل إلى حوالي 15,000 متفرج. ما يجعل هذا المدرج مميزًا هو حالة الحفظ الممتازة التي ما زال عليها، حيث يمكن للزائر أن يتخيل بسهولة كيف كانت العروض المسرحية والمصارعة تقام هنا منذ آلاف السنين.
عندما وقفنا في وسط المدرج، شعرنا بعظمة التاريخ وحضور الحضارات القديمة. الأصوات التي تتردد في المكان تعطي انطباعًا بأن الماضي ما زال حيًا بين هذه الجدران الحجرية.
القلعة الأيوبية: حارس التاريخ
و حول المدرج، تقف القلعة الأيوبية شامخة، بُنيت في القرن الثالث عشر لحماية المدينة. القلعة هي مثال رائع على التكيف المعماري، حيث استخدمت الحجارة الرومانية القديمة في بنائها. تسلق أسوارها واستمتع بإطلالة بانورامية على المدينة، وكأنك تراقب التاريخ من فوق.
الآثار الأخرى في بصرى
بالإضافة إلى المدرج الروماني، تضم بصرى العديد من الآثار الأخرى التي تعكس تنوع الحضارات التي مرت عليها
- كاتدرائية بصرى
حيث التاريخ والدين يلتقيان واحدة من أقدم الكاتدرائيات في العالم، التي بُنيت في القرن السادس الميلادي. كانت هذه الكاتدرائية مركزًا دينيًا مهمًا في العصر البيزنطي، وتحولت لاحقًا إلى مسجد بعد الفتح الإسلامي. هنا، تشعر بمدى التعايش بين الحضارات والأديان
- الشارع المستقيم
امشِ على طول الشارع المستقيم، الشارع الروماني الرئيسي الذي كان يعج بالتجار والقوافل القادمة من طريق الحرير. هنا، كانت تُباع البضائع الفاخرة من الشرق، مثل الحرير والتوابل والعطور. الشارع المستقيم ليس مجرد طريق، بل هو شاهد على ازدهار بصرى كمركز تجاري عالمي.
- الحمامات الرومانية
وهي مثال على فن العمارة الرومانية في بناء الحمامات العامة، والتي كانت جزءًا من الحياة اليومية لسكان المدينة.
- مسجد فاطمة
يعود إلى العصر الأيوبي، ويُعتقد أنه بُني على أنقاض كنيسة بيزنطية. المسجد هو مثال على التأثير الإسلامي في المدينة بعد الفتح الإسلامي، ويظهر التكيف بين العمارة الإسلامية والرومانية.
- البوابة النبطية
تعود إلى حضارة الأنباط، الذين كانوا يسيطرون على المنطقة قبل الرومان. البوابة هي واحدة من الآثار القليلة المتبقية من العصر النبطي في بصرى، وتُظهر مهارة الأنباط في النحت والعمارة.
- قصر تراجان
يُعتقد أن هذا القصر بُني في العصر الروماني خلال حكم الإمبراطور تراجان. كان يُستخدم كمقر إداري وعسكري، ويُعتبر مثالًا على العمارة الرومانية الفاخرة.
- المسرح الصغير (الأوديون)
بُني في العصر الروماني، وكان يُستخدم لإقامة العروض الموسيقية والخطابية. يتميز بتصميمه الصغير مقارنة بالمدرج الروماني، وكان يستوعب عددًا أقل من الجمهور
- الأسوار الأيوبية
بُنيت في العصر الأيوبي لحماية المدينة من الغزوات. هذه الأسوار هي مثال على التخطيط الدفاعي في العصور الوسطى، وتُظهر كيف تم دمج الآثار الرومانية القديمة في الهياكل الدفاعية الجديدة.
- بركة الحجاج
تُعرف تعتبر جزءًا من نظام متطور لتجميع المياه، كانت البحيرة جزءًا من شبكة مياه متكاملة تشمل قنوات مائية وسدودًا صغيرة لتوجيه المياه إلى البحيرة.
يُعتقد أن البحيرة كانت قادرة على تخزين كميات كبيرة من المياه، مما وفر مصدرًا مستدامًا للمياه لسكان المدينة يُعتقد أن الأنباط هم من بدأوا بناء النظام المائي في بصرى، حيث اشتهروا بمهاراتهم في إدارة المياه في المناطق الجافة (كما هو واضح في مدينة البتراء في الأردن).
و قام الرومان بتطوير النظام المائي في بصرى، حيث أضافوا قنوات مائية وحسنوا من قدرة البحيرة على تخزين المياه. استمر استخدام البحيرة في العصر الإسلامي، حيث كانت تُعتبر مصدرًا مهمًا للمياه لسكان المدينة
بحيرة بصرى هي مثال رائع على كيفية تعامل الحضارات القديمة مع التحديات البيئية، مثل ندرة المياه، من خلال إنشاء أنظمة هندسية متطورة. هذه البحيرة ليست فقط أثرًا تاريخيًا، ولكنها أيضًا شاهد على الإبداع البشري في إدارة الموارد الطبيعية
- آثار أقدام الناقة
يُقال إنها تعود إلى رحلة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى الشام، مما يضفي بُعدًا روحيًا على المدينة
حكايات للتاريخ
- قصة الراهب بحيرة: علامات النبوة
بحيرة كان راهبًا مسيحيًا عاش في منطقة بصرى الشام، وكان معروفًا بمعرفته العميقة بالكتب المقدسة وبالعلامات التي تشير إلى نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
القصة: عندما كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم صبيًا في الثانية عشرة من عمره، رافق عمه أبو طالب في رحلة تجارية إلى الشام. وعندما وصلوا إلى بصرى، لفت انتباه الراهب بحيرة بعض العلامات التي رآها في الصبي محمد. فقد لاحظ أن غيمة كانت تظلله من الشمس، وأن الأشجار والأحجار كانت تسجد له (وفقًا لبعض الروايات). كما لاحظ خاتم النبوة بين كتفيه.
بهذا أخبر الراهب بحيرة عم النبي، أبو طالب، بأن هذا الصبي سيكون له شأن عظيم في المستقبل، وحذره من اليهود حتى لا يؤذوه. هذه القصة تُعتبر من العلامات المبكرة التي أشارت إلى نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. - قصة آثار أقدام الناقة: تذكير بالرحلة النبوية
هذه القصة مرتبطة أيضًا بسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتحديدًا برحلته إلى الشام مع عمه أبو طالب.
يقال إن ناقة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تركت آثار أقدامها على صخرة في منطقة بصرى. هذه الآثار أصبحت فيما بعد محل تقدير واحترام من قبل المسلمين، حيث تُعتبر من العلامات التي تشير إلى مرور النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المنطقة.
ختام الرحلة: تأملات في التاريخ
في نهاية رحلتنا، وقفنا عند بوابة المدينة القديمة نتأمل الحجارة السوداء التي شهدت قرونًا من التاريخ. بصرى ليست مجرد مدينة أثرية، بل هي شاهد حي على تعاقب الحضارات وتفاعلها. هذه الرحلة كانت بمثابة رحلة عبر الزمن، حيث تعرفنا على تاريخ غني وحضارات عريقة تركت إرثًا لا يمحى.
بصرى الشام، بآثارها ومدرجها الروماني، تظل واحدة من أهم الوجهات التاريخية في العالم، وتستحق أن تكون على قائمة كل من يرغب في استكشاف جذور الحضارة الإنسانية
كل معلم من هذه المعالم يحمل قصة فريدة تعكس تاريخ بصرى الغني، من العصر النبطي إلى الروماني والبيزنطي ثم الإسلامي. هذه الآثار مجتمعة تجعل بصرى متحفًا مفتوحًا للتاريخ، وتقدم للزائر فرصة لفهم كيف تعايشت الحضارات وتفاعلت على مر العصور
في نهاية المطاف
توجهنا إلى مطعم الشلال وهاهو الصديق عيسى الطعمة يرحب بنا في مطعمه التراثي الجميل بكل بشاشة وترحاب..
وقد أعد لنا مناسف المليحي والكبة والأرز المجلل باللحم بكل إتقان ومحبة..
تناولنا غذائنا بكل شهية…وانطلقنا مودعين كل من كان باستقبالنا.. لا سيما الأخ الصديق عيسى الطعمة الذي أراه مذ عرفته وكأنه حارس بصرى الأمين بلا كلل أو ملل..ماغادرها ولا غادرته..
وهناك غير بعيد عن بصرى دعانا الشوق والمحبة لزيارة أحباب وأصدقاء لنا في سهوة القمح.
حوالي عشرة كيلومترات فقط واستقبلنا الأستاذ الخطاط والشاعر شكري السويداني بكل كرم أهل حوران وطيبة أصلهم..
حفاوة… ترحاب…وكرم الضيافة
إضافة إلى بشاشة الوجوه النيرة..
تبادلنا السلام… تعارف الجميع إلى مضيفنا الكريم وعائلته..
ومن ثم فُتحت لنا بوابة مرسمه الرائع .
تتجول الأبصار ونسمع بالعيون آيات من كلام الله سبحانه وتعالى..
والكثير من الحكم هنا وهناك..
من الكوفي إلى الثلث إلى الرقعة والنسخ….
حدثنا الأستاذ شكري عن بعض من رحلته مع الخط العربي…وعلاقته بأشهر خطاطي العالم العربي والإسلامي عموماً وأنه تشرف بكتابة نسخة من القرآن الكريم بيده المباركة..
وبأنها أغلى ما يملك..
و لمحة عن قريته التي يحبها وتحبه..
غادرنا القرية والغسق يلوح في الأفق على أمل اللقاء وتكرار الزيارة..
مع شعارنا الأجمل.. على الخير والمحبة والحرية نلتقي ونرتقي 💕
إعداد النهمدسة نجاة العلي
و الكوتش بلال المصري