وإلى جبل الشيخ… حيث تعانق الروح الجبل وترقص النقوس على دروب الصخور والماء
مع أولى خيوط الشمس، كانت دمشق تستفيق على هدوء غامض، كأنها تهمس لنا بوداعٍ مؤقت قبل أن ننطلق نحو حضن الطبيعة. لم يكن هذا الصباح كغيره من صباحات المدينة، فقد كان في الهواء وعدٌ بمغامرة، وفي القلب نبضٌ لا يشبه سوى نداء الجبال.
ركبنا القوافل ، واستدارت عجلاتنا جنوبًا غربًا نحو محاذاة الغوطة الغربية، مررنا ببلدات وُصفت طالما بـ خطوط التماس بين المدينة والطبيعة: المزة – عرطوز – قطنا – إلى قرى وبلدات جبل الشيخ – قلعة جندل – بقعسم – ريمة
كل بلدة نمر بها، تحمل لونًا مختلفًا من الحياة .
ريمة… بوابة الصعود إلى روح جبل الشيخ
مع اقتراب الشمس من كبد السماء، وصلنا إلى قرية ريمة، الواقعة عند السفوح الشرقية لجبل الشيخ، على ارتفاع يقارب 1400 متر عن سطح البحر. هناك، يبدأ العالم بالتغيّر. الهواء يزداد نقاءً، والسماء تقترب حتى تكاد تلمسها، وتبدأ الأرواح بالتحرر من عبء المدينة.
ريمة ليست قرية فقط، بل بداية تحوّل. حجارتها القديمة مرصوصة برهافةٍ تدلّ على عراقة ساكنيها، وأشجارها تفوح بعطر الزعتر والريحان. نزلنا من الحافلة، وكان أول من استقبلنا الأخ و الصديق جبران أبو زخم و أهالي القرية، وجوه باسمة، وثيابٌ تقليدية تُحاكي الألوان الطبيعية المحيطة.
بداية المسير: النزول نحو وادي بحيران
بعد ترتيب الحاجيات وتوحيد الخُطا، انطلقنا من ريمة في دربٍ منحدر نحو وادي بحيران. كانت الخطى في البداية خفيفة، يسندها شغف الاكتشاف، يرافقها صوتُ الريح وهي تمرّ بين الأغصان. الطريق المتعرج ينزل بنا بين سفوح مكسوّة بالعشب الربيعي، وفي كل منعطف، كانت الطبيعة تفاجئنا بمشهدٍ جديد: شجرة توت وحيدة، طيرٌ يحلّق بلا خوف، أو صخرة نُحتت بالزمن.
و على ضفاف نهر الأعوج ، توقفنا تحت ظلال أشجارالصفصاف و السنديان، هناك حيث وجبة الفطور كانت عنوانًا للبساطة والدفء. بعضنا أخرج الزيت و الزعتر والزيت، وآخرون خبز التنور والجبن البلدي و الحلويات و كل ما يمد بالطاقة ، وتقاسمنا اللقمات كما يتقاسم الإخوة ما يجود به القلب. لم نكن مجرد مجموعة، كنا فريقًا واحدًا، نتنفس الحياة و ننبض معا.
الطريق إلى نبع عين الجان: صعود التحدي وروح الجماعة
استأنفنا المسير، هذه المرة صعودا حادا ومن ثم نزول أكثر حدة نحو نبع عين الجان. الطريق لم تكن سهلة، بل كانت تزداد وعورة كلما اقتربنا من النبع، تمرّ بنا بين مرتفعات صخرية وأرضٍ مفروشة بشجيرات الأشواك. لكن كل خطوة كانت تُؤخذ برضا، كل عقبة كانت تُجتاز بروح الفريق.
جسر واحد من الرفاق لتجاوز الصعوبات و العثرات . نرتاح حينا لنعود نمشي حينا آخر. كنا كتلة واحدة تتحرك على إيقاع الإرادة. ضحكات الدهشة و التحدي تتعالى، و نظرات العيون ولغة الأكتاف والابتسامات العابرة، كانت تكفي لنعرف أن ما بيننا أعظم من الكلمات.
نبع عين الجان: عناق الماء للحجر
لم يكن بمقدورنا النزول إلى عين الجان إلا بواسطة الحبال.. و عند الوصول إلى نبع عين الجان، كان المشهد يستحق كل خطوة. من بين الصخور، يخرج الماء صافياً، بارداً كأنّه قادم من قلب الثلج. النباتات تنمو حوله كأنها تعرف سرّه، والهدوء في المكان يوحي بعظمةٍ صامتة. جلسنا حوله، غسلنا وجوهنا، التقطنا الصور، وملأنا القلوب قبل القناني.
يُقال إن اسمه “عين الجان” يعود لغموضه وجماله المفاجئ، وربما لما يحمله من رهبة طبيعية تُشعرك بأنك لست وحدك، بل برفقة أسرار قديمة مخبوءة في صمت الجبل.
العودة إلى المنتزه: الغناء في حضرة القمم
بعد الاستراحة، بدأنا العودة صعودًا باتجاه قرية عرنة نحو المنتزه المطلّ على سفوح جبل الشيخ. هناك، جلسنا على الحواف العالية، نشاهد الضوء يلامس قمم الجبل المُكلّل أحيانًا بالثلج حتى في أواخر الربيع.
امتلأت المائدة بما لذ وطاب. تناولنا وجبة الغداء سوياً. تحول المكان إلى حلقة من الفرح: الأيدي تُصفّق، الأصوات تتعالى، والضحكات تنبع من القلب. لم نكن غرباء، بل عائلة سورية بكل أطيافها جمعتها الطبيعة على حبها .
النهاية: في الطريق إلى دمشق… شيءٌ منا بقي هناك
مع حلول الغروب، عدنا أدراجنا نحو دمشق. الطريق ذاته الذي قطعناه صباحًا بدا مختلف في العودة. ربما لأن أعيننا صارت أصفى، أو لأن قلوبنا امتلأت بما يكفي من الجمال ليضيء الطريق.
في الباص، كان صوت الأغاني يلفّ الجميع، حيوية ،. كلٌّ منّا كان يستعرض الرحلة في ذاكرته، يحفظ تفاصيل وجهٍ، أو صوت نبع، أو نسمةٍ عبرت كتفه على قمة التلة.
عدنا إلى المدينة، لكن الحقيقة أن جزءًا منّا بقي هناك، بين حجارة ريمة، وأغصان بحيران، ومياه عين الجان.
نداء مفتوح لكل سائح: هنا تبدأ الحكاية
إذا كنت تبحث عن تجربةٍ حقيقية، لا عن رحلة سياحية فقط؛ إذا كنت تريد أن تتنفس من الرئة الطبيعية لسوريا، وتشعر بترابط الأرواح وسط الطبيعة، فاركب معنا في المسير القادم.
في ريمة وجبل الشيخ، لا تكتفي الطبيعة أن تُدهشك، بل تعيد تشكيلك من الداخل. تعال لتكتشف معنى الانتماء، ومعنى أن تكون جزءًا من فريق يتحرك كجسدٍ واحد، ويصعد الجبل بقلبٍ واحد.
إعداد
المهندسة: نجاة العلي
الكوتش : بلال المصري