هناك، في أحضان جبال القلمون، حيث يلامس الصخر السماء وتحتضن الطبيعة تراث الإنسان منذ آلاف السنين، بدأت رحلتنا مع دروبنا نحو قلب يبرود. جرودها الجبارة لم تكن مجرد تضاريس قاسية، بل صفحات حية من تاريخ لا يزال نابضًا، يروي قصصًا نُقشت على الحجر وبقيت عالقة في ذاكرة الأجيال.
بداية الحكاية: لقاء القلوب في المغارة
مع خيوط الصباح الأولى، التقينا بفريق النبك الرياضي البيئي وفريق مارمرون عند مغارة جميلة غدت بيتًا دافئًا يجمعنا. هناك، بين الصخور الهادئة، بدأنا استعداداتنا بقيادة الكوتش زين المغربي من فريق مارمرون و الكوتش بلال لرحلة مشي على الأقدام بمحاذاة جبال يبرود، جبال امتلأت بالمغاور والكهوف التي كانت في يوم ما مأوى للإنسان الأول، شاهدة على أدواته الحجرية وأحلامه المبكرة.
هذه الصخور العتيقة بدت كأعمال نحتية رائعة، صقلتها الرياح والأمطار وصبر آلاف السنين. حتى الأشجار القليلة التي صمدت بين جنباتها علمتنا دروسًا في المقاومة؛ كيف نتشبث بالحياة، وكيف نواصل المسير رغم كل العواصف.
وادي اسكفتا… معبر إلى الماضي
امتد خط سيرنا نحو وادي اسكفتا، أحد أودية يبرود العريقة التي سكنتها حضارات تعود لأكثر من 200 ألف عام، بحسب ما وثقه المستكشف الألماني ألفرد روست. المسار لم يكن سهلًا، بل كان امتحانًا حقيقيًا للياقة والإرادة؛ أربعة ساعات من المشي على الصخور الوعرة، نصعد الجبال وننزل الوادي، في مشهد طبيعي مذهل لا يشبه سوى لوحات الخيال.
دفء الضيافة في المغارة
بعد عودتنا إلى نقطة الانطلاق، استقبلنا أهل يبرود بكرمهم الذي يليق بتاريخهم. تحت سقف المغارة العريق، امتدت موائد الفطور البسيطة المليئة بالحب، ورائحة الشاي على الحطب أشاعت فينا دفئًا نادرًا. كانت لحظة امتنان حقيقية، وكأن الجبل نفسه يشاركنا فرحنا.
كنيسة هيلانة و قسطنطين حجارة تنطق بالإيمان
لا يكتمل المسير في يبرود دون التوقف عند كنيسة هيلانة، المنسوبة إلى القديسة هيلانة، أم الإمبراطور قسطنطين الكبير. هذه المرأة القوية التي غيّرت مجرى التاريخ، زرعت بذور المسيحية في الشرق، وبنت معابد الإيمان، ومنها هذه الكنيسة التي لا تزال حجارتها تنبض بصلوات أجيال لا تحصى.
جدرانها الصامدة وأعمدتها الرومانية والبيزنطية ذكرتنا بقوة الإنسان حين يكون مؤمنًا، وقيل إن قسطنطين نفسه ربما مرّ من هنا أو أوصى بترميمها لاحقًا.
و لم تبخل علينا الصبية اليبرودية الرقيقة اللطيفة فاتن درة بالابتهالات الدينية بصوتها الدافئ الحنون
و في الردهة المجاورة بنيت كنيسة النجاة
جامع الخضر… روح التسامح
ومن الكنيسة، سرنا نحو جامع الخضر، ذاك المكان المتواضع في حجمه، العظيم في رسالته. مسجد بُنِي على أنقاض موقع ديني أقدم، ربما كان ديرًا أو كنيسة، ليصبح رمزًا للتعايش الجميل بين أهالي يبرود.
داخل جدرانه، شعرت بالطمأنينة المطلقة، بحجارة تتكلم عن حضارة لا تعرف الانقطاع، وعن رسالة تقول: هنا عاش الناس معًا بسلام.
بيوت يبرود القديمة… حكايات الحجر
مسيرنا لم يقف عند المعالم الدينية، بل دخلنا بيوتًا عربية عتيقة ما تزال تحفظ عبق الأجداد برفقة كل من السيد فوازحسين و زوجته المحترمة و السيد المحترم نبيل خلوف و السيدة ماري و الصبيتان اللطيفتان حليمة و فاتن.
- في بيت الصايغ، فتحت لنا سيدة يبرودية كريمة باب بيتها على مصراعيه، لترينا هندسة البيت الريفي البسيط المزدان بشجرة المشمش ودفء الذكريات و الحنين.
- ثم إلى بيت الحسون، الذي يناهز عمره 150 عامًا، حيث استقبلنا زوجان مسنان بكرم لا يوصف وابتسامة ستظل محفورة بذاكرتي ما حييت و رافقانا حتى ركبنا الحافلة.
- وأخيرًا بيت الحداد، الذي ما زال أهله يبرعون في فنون التغليف اليدوي للهدايا بحرفية رائعة.
في تلك اللحظات شعرنا أن أهل يبرود هم امتداد طبيعي لصخور جبالهم: صامدون، بسطاء، لا ينسون تراثهم مهما مرّ الزمن.
نبع كوشل… الحياة تتدفق
ومع كل هذه المشاعر، وصلنا إلى منتزه كوشل قرب نبع المياه الذي يغذي بساتين المنطقة ويمنحها الحياة. جلسنا تحت ظلال الصفصاف والدلب، نستمع لخرير الماء كأنه يروي قصص الأرض وعطائها. كانت استراحة مستحقة بعد يوم طويل، وكأن الطبيعة نفسها تقول لنا: أحسنتم، لقد اجتزتم الامتحان.
فلسفة دروبنا
نؤمن في دروبنا أن السير ليس مجرد رياضة، بل هو فلسفة:
- تواصل مع الطبيعة
- احترام للتاريخ
- إعادة اكتشاف للهوية
- بناء جسور المحبة بين الناس
كل خطوة معنا تحمل بعدًا ثقافيًا وإنسانيًا، حتى يصبح المسير تجربة حياة حقيقية لا تنسى.
الوداع… وتأملات أخيرة
حين ودعنا جرود يبرود، حملنا معنا شيئًا كبيرًا من الامتنان. هذا المكان لا يجامل أحدًا، بل يكشف حقيقتك، ويختبر صلابتك. وأهله الكرماء أعطونا شعورًا نادرًا بالانتماء، ليؤكدوا لنا أن سوريا ما تزال بخير، ما دامت قرًى مثل يبرود تحفظ تاريخها وتبني مستقبلها على المحبة.
بقيت كنيسة هيلانة شاهدًا على صبر الإيمان، وجامع الخضر رمزًا للتسامح، وظل نبع كوشل ينبض بالأمل.
ومع دروبنا، سنروي هذه الحكاية مرة بعد مرة، لأن الأرض — كما قال أحد رجال يبرود لنا ونحن نشرب الشاي
“ما بتعطي أسرارها إلا للي بحبها.”
نعم، أحببنا يبرود، وأحبّتنا هي، وصار بيننا وبينها عهد لا ينكسر.
شكرا من القلب لكل فرد من أهل يبرود و أهل النبك الذين رافقونا بهذا المسير المميز
إعداد
المهندسة : نجاة العلي
الكوتش بلال المصري