يقف “مقام الأربعين” شامخًا على قمة جبل قاسيون بقبته الخضراء، مشرفًا على دمشق بأكملها كما لو كان حارساً للمدينة التي تستريح تحت ظله. رحلة الوصول إلى هذا المقام ليست مجرد طريق عادي، بل هي مغامرة روحية وجسدية تحتاج إلى العزم والقدرة على التحمل. رغم أن المسافة الفعلية بين المقام ومركز مدينة دمشق لا تتجاوز 900 متر، فإن الرحلة تستغرق حوالي ساعة من الصعود الحاد والشاق، وذلك عبر حوالي 650 درجة حجرية متعرجة، متداخلة مع البيوت والمنازل التي تلتصق بجبل قاسيون، حيث تبدأ الرحلة من ساحة شمدين قرب حي ركن الدين من جهة وحي الصالحية ومحلة “الشيخ محيي الدين بن عربي”من جهة أخرى..
هذه ليست صدفة، فالعلاقة بين الشيخ محيي الدين بن عربي وجبل قاسيون عميقة، إذ كان الشيخ محيي الدين، وهو أحد أعلام التصوف والعرفان الإسلامي، يجد في هذا الجبل ملاذاً للخلوة والتأمل، مؤكداً قدسية هذا الجبل لكن من عاش تحت ظله…
يتسم بهدوء لا مثيل له. من هنا تبدأ الرحلة الصوفية إلى المقام، حيث يجد الزائر نفسه محاطاً بجو من السكينة والعزلة، يتداخل مع الجبال والحجارة، وكأن الجبل نفسه يدعوه للتأمل والخشوع.
وعلى طول الطريق الوعرة، تتناثر المنازل البسيطة على جانبي الدرجات، حيث يمر الزائر عبر هذه الأزقة الضيقة حتى يصل إلى أعلى قمة جبل قاسيون، حيث ينتظره “مقام الأربعين” بجلاله وهيبته على ارتفاع 1100 متر عن سطح البحر..
المقام لا يقتصر على جمال المناظر الطبيعية فقط، بل يحكي قصصاً وروايات تاريخية ودينية تمتزج فيها الحقيقة بالأسطورة. يضم المكان مسجداً بسيطاً تميز بوجود أربعين محراباً يقال إنها ترمز لأربعين ولياً صالحاً خص الله بهم هذه المدينة لحمايتها ونصرتها على من أراد بها السوء ويُطلق عليهم “الأبدال”. المكان نفسه ارتبط بالعديد من الروايات، أشهرها تلك المتعلقة بـ”مغارة الدم”،
التي بني مسجد الأربعين فوقها حيث يُقال إن أول جريمة قتل في تاريخ البشرية حدثت هنا، عندما قتل قابيل أخاه هابيل، وما تزال آثار الدماء تظهر على صخرة في المغارة الحمراء يقال هي أداة الجريمة الأولى في التاريخ
وعلى الرغم من أن المغارة تحمل في داخلها هذه القصة المأساوية، فإنها تروي أيضًا تفاصيل أخرى أكثر غرابة، مثل “شهقة الجبل”، التي تروي أن الجبل كاد ينقض على قابيل عقابا له على قتل أخيه، لكن الملاك جبريل أوقف الجبل في اللحظة الأخيرة. ويُقال إن الجبل بكى دموعاً على هابيل، ولا تزال تلك الدموع تتساقط حتى اليوم في شق صغير داخل المغارة، حيث يأتي الزوار ليجمعوا هذا الماء المبارك في جرن صغير وضع لهذا الغرض .
وعند الحديث عن قصة الدفن، تحكي الرواية إن قابيل، بعد قتله لأخيه، لم يعرف كيف يدفن جثة هابيل، فحملها لعدة أيام حتى شاهد غراباً يحفر في الأرض ليدفن غراباً آخر لعلَّ الله أرسله ليتعلم منه كيفية الدفن، وقام بدفن هابيل في مكان يُعتقد أنه يقع في منطقة الزبداني اليوم، حيث مقام النبي هابيل في ميسلون .
وعلى الرغم من أن المقام ظل لفترات طويلة معزولًا بسبب صعوبة الوصول إليه والحروب التي عزلته عن الناس، فإن الطريق أعيد فتحه مؤخرًا، ليصبح بإمكان الزوار الاستمتاع بهذه الرحلة الروحية والسياحية التي تنتهي بمنظر خلاب يُطل على دمشق بأكملها من أعلى الجبل. وبينما تحتاج جدران المقام وقبته إلى الترميم، فإن التجربة التي يقدمها المكان تجعل من الصعود إليه رحلة لا تُنسى.
ولطريق النزول حكاية أخرى ومعالم تاريخية هامة نرويها لكم قريباً.