في خضمّ زحمة الأيام وصخب الحياة، يحتاج الإنسان أحيانًا إلى لحظة هدوءٍ يلوذ فيها إلى الطبيعة ليجد ذاته من جديد، في مكانٍ تتداخل فيه روح الأرض مع نسمة السماء. هناك، حيث يلتقي الصخر بالصلاة، والسكينة بالتأمل، تبدأ الحكاية… رحلة إلى دير مار موسى الحبشي.
في مساء يوم جمعة مفعم بالحماس، انطلقت حافلتنا تحمل أفراد عائلة “دروبنا” نحو هذا الدير العريق المعلّق بين صخور جبال القلمون، والذي يجمع بين الجمال الروحي والعراقة التاريخية. كانت الأجواء مليئة بالضحك والفضول، وكلٌّ منا يتشوّق لاكتشاف التجربة التي تنتظرنا.

عند مدخل الدرج المؤدي إلى الدير بدأت المغامرة الحقيقية؛ فقد أُرسلت أمتعتنا عبر التلفريك المخصص لنقلها، بينما بدأنا نحن الصعود على أربعمئة درجة من السلالم الحجرية، بخطواتٍ متتابعةٍ ومجموعاتٍ متقاربة، تتخللها لحظات التعارف والمرح وتبادل الابتسامات.
في الأعلى، كان رهبان الدير وإخوته بانتظارنا بوجوهٍ مضيئة وابتساماتٍ تنضح بالمحبة. بدأنا بعيش طقس الصمت، تلك اللحظة التي تُعيد الإنسان إلى ذاته وتجعله ينصت إلى صوته الداخلي بعيدًا عن ضجيج العالم. ثم اجتمعنا في الصلاة، فغمرتنا السكينة من كل صوب، وتلتها مائدة عشاء بسيطة لكنها مليئة بالدفء الإنساني: بطاطا مسلوقة وحساء شهي.

بعد العشاء، توجه الشباب إلى مكان مبيتهم المنفصل، فيما بقي البعض منا يتأمل السماء المرصعة بالنجوم. كانت جلسةً استثنائية من الضحك والحديث الهادئ، وكأنّ السماء اقتربت لتهمس لنا بالطمأنينة. ومع الفجر، استيقظنا على قداسٍ صباحي تناغمت فيه الأصوات والتراتيل، ليملأ المكان روح السلام والسكينة، تلاه فطورٌ لذيذ أعدّه إخوتنا في الدير بمحبةٍ وكرمٍ نادرين.
دير مار موسى… حكاية روحٍ وبناء
ليس دير مار موسى مجرد مكانٍ للعبادة، بل هو حكاية حياةٍ وروحٍ متجددة. تأسس في القرن السادس على اسم الراهب الحبشي مار موسى الذي اختار العزلة والتأمل في جبال القلمون، ليصبح الدير اليوم منارةً للحوار بين الأديان والتعايش الإنساني.

تتزين جدران الكنيسة القديمة بجدارياتٍ تعود إلى القرنين الحادي عشر والثاني عشر، ما تزال ألوانها تحكي قصة الإيمان والصبر عبر القرون. أما إخوة الدير، فهم يجسدون البساطة في أبهى صورها، إذ يعملون بأيديهم في الزراعة والبناء، ويهيئون المكان ليستقبل الزوار من مختلف أنحاء العالم بروحٍ من المحبة والتواضع. كل ركنٍ في الدير يشهد على تآلف الإنسان مع الطبيعة، وعلى الجمال الذي يولد من العمل الجماعي والإيمان العميق.
الأب باولو وثلاثيته المقدسة
لقد ارتبط اسم دير مار موسى في العصر الحديث بشخصيةٍ استثنائية هي الأب باولو دالوليو، الكاهن الإيطالي الذي عشق سوريا حتى الجذور، وأعاد إحياء الدير في ثمانينيات القرن الماضي بعد أن كان مهجورًا. جعل منه واحةً للحوار بين الأديان، ومكانًا يحتضن الجميع دون تفرقة، مؤمنًا بأن الإيمان الحقيقي لا يُختزل في طائفة، بل يمتد ليشمل الإنسان كلّه.
كان الأب باولو يؤمن بـ الثلاثية المقدسة التي شكلت جوهر رسالته:
- الإيمان العميق الذي يربط الإنسان بخالقه عبر الصدق والبساطة.
- الحوار بين الأديان كجسرٍ يربط القلوب بدل أن يفصلها.
- العيش المشترك كأسمى تعبيرٍ عن المحبة الإنسانية والسلام.

بفضل رؤيته وعمله، تحوّل الدير إلى بيتٍ مفتوحٍ لكل الباحثين عن الحقيقة والسكينة، واستمرت رسالته حيّة بجهود الإخوة الذين حملوا المشعل من بعده، يزرعون الأرض، ويبنُون بالأمل، ويستقبلون الزوار بالبسمة ذاتها التي آمن بها مؤسسهم الروحي.
محطة المتحف والنبك
بعد وداع دير مار موسى، اتجهنا إلى متحف دير عطية، ذلك المتحف الذي يضم مقتنياتٍ من مختلف العصور: أيقونات وصورًا قديمة، وأسلحةً تقليدية، وطيورًا محنطة، وخوابي فخارية تحكي ذاكرة المكان والإنسان.
ثم تابعنا رحلتنا إلى مدينة النبك، المدينة الأنيقة التي تخطف الأنظار بتنظيمها ونظافتها وتناسق بيوتها مع الجبل. فيها دفء المدن الصغيرة وأناقة المدن الكبيرة، وهدوء يمنح الزائر راحةً عميقة.

هناك، استقبلتنا صديقتنا ليليان في مزرعتها الجميلة، بحفاوةٍ مليئةٍ بالحب والفرح. تحوّلت الجلسة إلى كرنفالٍ من الأغاني والضحك والسكيتشات المرحة. جلسة غداءٍ عامرة جمعتنا حتى غروب الشمس، حين ودعنا ليليان وزوجها الذي أتحفنا بصوته الجميل وأغانيه العذبة.


أثر الرحلة
عدنا إلى دمشقنا الحبيبة وقلوبنا مفعمة بالطمأنينة والبهجة. لم تكن الرحلة مجرد نزهة، بل كانت غسلاً للروح وتجديدًا للنَفَس، وتجربةً جمعت بين التأمل والمرح، بين الإنسان والطبيعة، بين الصمت والضحكة.
مع عائلة دروبنا، نكبر في كل مغامرة، وننتظر اللقاء القادم بشوقٍ أكبر وحبٍ أعمق.






